فصل: بَاب إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً فَلَا دِيَةَ لَهُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به‏)‏ كذا لهم، وأما النسفي فعطف بدون ‏"‏ باب ‏"‏ فقال بعد قوله خطأ ‏"‏ الآية، وإذا أقر إلخ ‏"‏ وذكروا كلهم حديث أنس في قصة اليهودي والجارية ويحتاج إلى مناسبته للآية فإنه لا يظهر أصلا فالصواب صنيع الجماعة، قال ابن المنذر‏:‏ حكم الله في المؤمن يقتل المؤمن خطأ بالدية، وأجمع أهل العلم على ذلك ثم اختلفوا في قوله ‏(‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏)‏ فقيل المراد كافر ولعاقلته الدية من أجل العهد وهذا قول ابن عباس والشعبي والنخعي والزهري، وقيل مؤمن جاء ذلك عن النخعي وأبي الشعثاء، قال الطبري‏:‏ والأول أولى لأن الله أطلق الميثاق ولم يقل في المقتول وهو مؤمن كما قال في الذي قبله، ويترجح أيضا حيث ذكر المؤمن ذكر الدية والكفارة معا وحيث ذكر الكافر ذكر الكفارة فقط وهنا ذكر الدية والكفارة معا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لَهَا مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا أَفُلَانٌ أَفُلَانٌ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ وَقَدْ قَالَ هَمَّامٌ بِحَجَرَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏فجيء باليهودي فاعترف‏)‏ في رواية هدبة عن همام ‏"‏ فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي، وفي حديث أنس في قصة اليهودي حجة للجمهور في أنه لا يشترط في الإقرار بالقتل أن يتكرر، وهو مأخوذ من إطلاق قوله ‏"‏ فأخذ اليهودي فاعترف ‏"‏ فإنه لم يذكر فيه عددا والأصل عدمه، وذهب الكوفيون إلى اشتراط تكرار الإقرار بالقتل مرتين قياسا على اشتراط تكرار الإقرار بالزنا أربعا تبعا لعدد الشهود في الموضعين‏.‏

*3*باب قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قتل الرجل بالمرأة‏)‏ ذكر فيه حديث أنس في قصة اليهودي والجارية باختصار، وقد تقدم شرحه مستوفى قريبا، ووجه الدلالة منه واضح، ولمح به إلى الرد على من منع كما سأبينه في الباب الذي بعده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ يَهُودِيًّا بِجَارِيَةٍ قَتَلَهَا عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا

الشرح‏:‏

حديث أنس في قصة اليهودي والجارية باختصار قد تقدم شرحه مستوفى قريبا‏.‏

*3*باب الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْجِرَاحَاتِ

وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ تُقَادُ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ فِي كُلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْجِرَاحِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ أَصْحَابِهِ وَجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إِنْسَانًا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَاصُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات‏)‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء، وخالف الحنفية فيما دون النفس، واحتج بعضهم بأن اليد الصحيحة لا تقطع باليد الشلاء بخلاف النفس فإن النفس الصحيحة تقاد بالمريضة اتفاقا، وأجاب ابن القصار بأن اليد الشلاء في حكم الميتة والحي لا يقاد بالميت‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ لما أجمعوا على القصاص في النفس واختلفوا فيما دونها وجب رد المختلف إلى المتفق‏.‏

قوله ‏(‏وقال أهل العلم يقتل الرجل بالمرأة‏)‏ المراد الجمهور، أو أطلق إشارة إلى وهي الطريق إلى على‏.‏

أو إلى أنه من ندرة المخالف‏.‏

قوله ‏(‏ويذكر عن عمر تقاد المرأة من الرجل في كل عمد يبلغ نفسه فما دونها من الجراح‏)‏ وصله سعيد بن منصور من طريق النخعي قال ‏"‏ كان فيما جاء به عروة البارقي إلى شريح من عند عمر قال جرح الرجال والنساء سواء ‏"‏ وسنده صحيح إن كان النخعي سمعه من شريح، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر فقال ‏"‏ عن إبراهيم عن شريح، قال أتاني عروة، فذكره، ومعنى قوله ‏"‏ تقاد ‏"‏ يقتص منها إذا قتلت الرجل ويقطع عضوها الذي تقطعه منه وبالعكس‏.‏

قوله ‏(‏وبه قال عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وأبو الزناد عن أصحابه‏)‏ أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن جعفر بن برقان عن عمر بن عبد العزيز وعن مغيرة عن إبراهيم النخعي قالوا‏:‏ القصاص بين الرجل والمرأة في العمد سواء‏.‏

وأخرج الأثرم من هذا الوجه عن عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ القصاص فيما بين المرأة والرجل حتى في النفس‏.‏

وأخرج البيهقي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال‏:‏ كل من أدركت من فقهائنا - وذكر السبعة في مشيخة سواهم أهل فقه وفضل ودين - وقال وربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا أنهم كانوا يقولون المرأة تقاد من الرجل عينا بعين وأذنا بأذن وكل شيء من الجراح على ذلك وإن من قتلها قتل بها‏.‏

قوله ‏(‏وجرحت أخت الربيع إنسانا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ القصاص‏)‏ كذا لهم، ووقع للنسفي ‏"‏ كتاب الله القصاص ‏"‏ والمعتمد ما عند الجماعة وهو بالنصب على الإغراء، قال أبو ذر‏:‏ كذا وقع هنا والصواب ‏"‏ الربيع بنت النضر عمة أنس ‏"‏ وقال الكرماني‏:‏ قيل إن الصواب ‏"‏ وجرحت الربيع ‏"‏ بحذف لفظة أخت فإنه الموافق لما تقدم في البقرة من وجه آخر ‏"‏ عن أنس أن الربيع بنت النضر عمته كسرت ثنية جارية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كتاب الله القصاص، قال‏:‏ إلا أن يقال إن هذه امرأة أخرى، لكنه لم ينقل عن أحد، كذا قال، وقد ذكر جماعة أنهما قصتان، والمذكور هنا طرف من حديث أخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ‏"‏ أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ القصاص القصاص، فقالت أم الربيع‏:‏ يا رسول الله أيقتص من فلانة والله لا يقتص منها، فقال‏:‏ سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله فما زالت حتى قبلوا الدية فقال‏:‏ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ‏"‏ والحدث المشار إليه في سورة البقرة مختصر من حديث طويل ساقه البخاري في الصلح بتمامه من طريق حميد عن أنس وفيه، فقال أنس بن النضر‏:‏ أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله‏؟‏ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، قال يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم وعفوا فقال‏:‏ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ‏"‏ وسيأتي بعد أربعة أبواب أيضا باختصار، قال النووي قال العلماء‏:‏ المعروف رواية البخاري، ويحتمل أن يكونا قصتين‏.‏

قلت‏:‏ وجزم ابن حزم بأنهما قصتان صحيحتان وقعتا لامرأة واحدة إحداهما أنها جرحت إنسانا فقضى عليها بالضمان والأخرى أنها كسرت ثنية جارية فقضى عليها بالقصاص وحلفت أمها في الأولى وأخوها في الثانية‏.‏

وقال البيهقي بعد أن أورد الروايتين‏:‏ ظاهر الخبرين يدل على أنهما قصتان، فإن قبل هذا الجمع وإلا فثابت أحفظ من حميد‏.‏

قلت‏:‏ في القصتين مغايرات‏:‏ منها هل الجانية الربيع أو أختها، وهل الجناية كسر الثنية أو الجراحة، وهل الحالف أم الربيع أو أخوها أنس بن النضر‏؟‏ وأما ما وقع في أول الجنايات عند البيهقي من وجه آخر عن حميد عن أنس قال ‏"‏ لطمت الربيع بنت معوذ جارية فكسرت ثنيتها ‏"‏ فهو غلط في ذكر أبيها والمحفوظ أنها بنت النضر عمة أنس كما وقع التصريح به في صحيح البخاري، وفي الحديث أن كل من وجب له القصاص في النفس أو دونها فعفا على مال فرضوا به جاز‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَدَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ لَا تُلِدُّونِي فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا لُدَّ غَيْرَ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو القطان وسفيان هو الثوري‏.‏

قوله ‏(‏لددنا النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال لا تلدوني‏)‏ تقدم شرحه في الوفاة النبوية، والمراد منه هنا ‏"‏ لا يبقى أحد منكم إلا لد ‏"‏ فإن فيه إشارة إلى مشروعية الاقتصاص من المرأة بما جنته على الرجل، لأن الذين لدوه كانوا رجالا ونساء، وقد ورد التصريح في بعض طرقه بأنهم لدوا ميمونة وهي صائمة من أجل عموم الأمر كما مضى في الوفاة النبوية من وجهين‏.‏

قوله ‏(‏غير العباس فإنه لم يشهدكم‏)‏ تقدم بيانه أيضا في الوفاة النبوية قبل‏.‏

وفي الحديث أن صاحب الحق يستثنى من غرمائه من شاء فيعفو عنه ويقتص من الباقين، وفيه نظر لقوله ‏"‏ لم يشهدكم ‏"‏ وفيه أخذ الجماعة بالواحد، قال الخطابي‏:‏ وفيه حجة لمن رأى القصاص في اللطمة ونحوها، واعتل من لم ير ذلك بأن اللطم يتعذر ضبطه وتقديره بحيث لا يزيد ولا ينقص وأما اللدود فاحتمل أن يكون قصاصا واحتمل أن يكون معاقبة على مخالفة أمره فعوقبوا من جنس جنايتهم‏.‏

وفيه أن الشركاء في الجناية يقتص من كل واحد منهم إذا كانت أفعالهم لا تتميز، بخلاف الجناية في المال لأنها تتبعض، إذ لو اشترك جماعة في سرقة ربع دينار لم يقطعوا اتفاقا، وسيأتي بيان ذلك بعد ستة أبواب

*3*باب مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ أَوْ اقْتَصَّ دُونَ السُّلْطَانِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من أخذ حقه‏)‏ أي من جهة غريمه بغير حكم حاكم ‏(‏أو اقتص‏)‏ أي إذا وجب له على أحد قصاص في نفس أو طرف هل يشترط أن يرفع أمره إلى الحاكم أو يجوز أن يستوفيه دون الحاكم وهو المراد بالسلطان في الترجمة‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من حقه دون السلطان، قال‏:‏ وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده كما تقدم تفصيله‏.‏

قال‏:‏ وأما أخذ الحق فإنه يجوز عندهم أن يأخذ حقه من المال خاصة إذا جحده إياه ولا بينة عليه كما سيأتي تقريره قريبا‏.‏

ثم أجاب عن حديث الباب بأنه خرج على التغليظ والزجر عن الاطلاع على عورات الناس انتهى‏.‏

قلت‏:‏ فأما من نقل الاتفاق فكأنه استند فيه إلى ما أخرجه إسماعيل القاضي في ‏"‏ نسخة أبي الزناد ‏"‏ عن الفقهاء الذين ينتهي إلى قولهم ومنه‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده، وهذا إنما هو اتفاق أهل المدينة في زمن أبي الزناد‏.‏

وأما الجواب فإن أراد أنه لا يعمل بظاهر الخبر فهو محل النزاع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أنه سمع أبا هريرة يقول إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ نحن الآخرون السابقون يوم القيامة‏)‏ كذا لأبي ذر وسقط ‏"‏ يوم القيامة ‏"‏ للباقين‏.‏

الحديث‏:‏

وَبِإِسْنَادِهِ لَوْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ خَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وبإسناده لو اطلع إلخ‏)‏ هو المراد في هذه الترجمة، والأول ذكره لكونه أول حديث في نسخة شعيب عن أبي الزناد، ومن ثم لم يسق الحديث بتمامه هنا بل اقتصر على أوله إشارة إلى ذلك، وساقه بتمامه في كتاب الجمعة، ولم يطرد للبخاري صنيع في ذلك واطرد صنيع مسلم في ‏"‏ نسخة همام ‏"‏ بأن يسوق السند ثم يقول فذكر أحاديث منها ثم يذكر الحديث الذي يريده وقد أشرت إلى ذلك في كتاب الرقاق، وجوز الكرماني أن الراوي سمع الحديثين في نسق واحد فجمعهما فاستمر من بعده على ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يحتاج إلى تكملة، وهو أن البخاري اختصر الأول لأنه لا يحتاج إليه هنا‏.‏

قوله ‏(‏لو اطلع‏)‏ الفاعل مؤخر وهو ‏"‏ أحد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولم تأذن له‏)‏ احتراز ممن اطلع بإذن‏.‏

قوله ‏(‏حذفته بحصاة‏)‏ كذا هنا بغير فاء، وأخرجه الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه بلفظ ‏"‏ فحذفته ‏"‏ وهو الأولى والأول جائز، وسيأتي بعد سبعة أبواب من رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بلفظ ‏"‏ لو أن امرءا اطلع عليك بغير إذن فحذفته ‏"‏ وقوله حذفته بالحاء المهملة عند أبي ذر والقابسي وعند غيرهما بالخاء المعجمة وهو أوجه لأن الرمي بحصاة أو نواة ونحوهما إما بين الإبهام والسبابة وإما بين السبابتين وجزم النووي بأنه في مسلم بالمعجمة، وسيأتي في رواية سفيان المشار إليها بالمهملة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ الرواية بالمهملة خطأ لأن في نفس الخبر أنه الرمي بالحصى وهو بالمعجمة جزما‏.‏

قلت‏:‏ ولا مانع من استعمال المهملة في ذلك مجازا‏.‏

قوله ‏(‏ففقأت عينه‏)‏ بقاف ثم همزة ساكنة أي شققت عينه، قال ابن القطاع‏:‏ فقأ عينه أطفأ ضوءها‏.‏

قوله ‏(‏جناح‏)‏ أي إثم أو مؤاخذة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا فَقُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو القطان وحميد هو الطويل‏.‏

قوله ‏(‏إن رجلا‏)‏ هذا ظاهره الإرسال لأن حميدا لم يدرك القصة، لكن بين في آخر الحديث أنه موصول‏.‏

وسيأتي بعد سبعة أبواب من وجه آخر عن أنس ويذكر فيه ما قيل في تسمية الرجل المذكور‏.‏

قوله ‏(‏فسدد إليه‏)‏ بدالين مهملتين الأولى ثقيلة قبلها سين مهملة أي صوب وزنه ومعناه، والتصويب توجيه السهم إلى مرماه وكذلك التسديد ومنه البيت المشهور‏:‏ أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني وقد حكي فيه الإعجام ويترجح كونه بالمهملة بإسناده إلى التعليم لأنه الذي في قدرة المعلم بخلاف الشدة بمعنى القوة فإنه لا قدرة للمعلم عل اجتلابها، ووقع في رواية أبي ذر عن السرخسي وفي رواية كريمة عن الكشميهني بالشين المعجمة والأول أولى فقد أخرجه أحمد عن محمد بن أبي عدي عن حميد بلفظ ‏"‏ فأهوى إليه ‏"‏ أي أمال إليه‏.‏

قوله ‏(‏مشقصا‏)‏ تقدم ضبطه وتفسيره في كتاب الاستئذان في الكلام على رواية عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس وسياقه أتم، ووقع هنا في رواية حميد مختصرا أيضا، وقد أخرجه أحمد عن يحيى القطان شيخ شيخ البخاري فيه فزاد في آخره حتى أخر رأسه بتشديد الخاء المعجمة أي أخرجها من المكان الذي اطلع فيه وفاعل أخر هو الرجل، ويحتمل أن يكون المشقص وأسند الفعل إليه مجازا، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لكونه السبب في ذلك والأول أظهر، فقد أخرجه أحمد أيضا عن سهل بن يوسف عن حميد بلفظ ‏"‏ فأخرج الرجل رأسه ‏"‏ وعنده في رواية ابن أبي عدي التي أشرت إليها‏:‏ فتأخر الرجل‏.‏

قوله ‏(‏فقلت من حدثك‏)‏ القائل هو يحيى القطان والمقول له هو حميد وجوابه بقوله أنس بن مالك يقتضي أنه سمعه منه بغير واسطة، وهذا من المتون التي سمعها حميد من أنس وقد قيل إنه لم يسمع منه سوى خمسة أحاديث والبقية سمعها من أصحابه عنه كثابت وقتادة فكان يدلسها فيرويها عن أنس بلا واسطة، والحق أنه سمع منه أضعاف ذلك، وقد أكثر البخاري من تخريج حديث حميد عن أنس، بخلاف مسلم فلم يخرج منها إلا القليل‏.‏

لهذه العلة، لكن البخاري لا يخرج من حديثه إلا ما صرح فيه بالتحديث أو ما قام مقام التصريح ولو باللزوم كما لو كان من رواية شعبة عنه فإن شعبة لا يحمل عن شيوخه إلا ما عرف أنهم سمعوه من شيوخهم، وقد أوضحت ذلك في ترجمة حميد في مقدمة هذا الشرح ولله الحمد‏.‏

*3*باب إِذَا مَاتَ فِي الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا مات في الزحام أو قتل به‏)‏ كذا لابن بطال وسقط ‏"‏ به ‏"‏ من رواية الأكثر، أورد البخاري الترجمة مورد الاستفهام ولم يجزم بالحكم كما جزم به في الذي بعده لوجود الاختلاف في هذا الحكم وذكر فيه حديث عائشة في قصة قتل اليمان والد حذيفة وقد تقدم الكلام عليه قريبا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ اختلف علي وعمر هل تجب ديته في بيت المال أو لا‏؟‏ وبه قال إسحاق أي بالوجوب، وتوجيهه أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين فوجبت ديته في بيت مال المسلمين‏.‏

قلت‏:‏ ولعل حجته ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة أن والد حذيفة قتل يوم أحد قتله بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات مع إرساله، وقد تقدم له شاهد مرسل أيضا في ‏"‏ باب العفو عن الخطأ ‏"‏ وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال، وفي المسألة مذاهب أخرى منها قول الحسن البصري إن ديته تجب على جميع من حضر وهو أخص من الذي قبله، وتوجهه أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم‏.‏

ومنها قول الشافعي ومن تبعه أنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف فإن حلفت استحقيت الدية وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة، وتوجيهه أن الدم لا يجب إلا بالطلب‏.‏

ومنها قول مالك دمه هدر، وتوجهه أنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد، وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب في ‏"‏ باب العفو عن الخطأ‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ أَخْبَرَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ فَصَاحَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ فَقَالَ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي أَبِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ قَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ عُرْوَةُ فَمَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏قال هشام أخبرنا‏)‏ من تقديم اسم الراوي على الصيغة وهو جائز، وهشام المذكور هو ابن عروة ابن الزبير‏.‏

قوله ‏(‏فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان‏)‏ تقدم شرح قصته في غزوة أحد، وقوله ‏"‏قال عروة ‏"‏ هو موصول بالسند المذكور، وقوله ‏"‏فما زالت في حذيفة منه ‏"‏ أي من ذلك الفعل وهو العفو، و ‏"‏ من ‏"‏ سببية وتقدم القول فيه أيضا‏.‏

*3*بَاب إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً فَلَا دِيَةَ لَهُ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَيْهَاتِكَ فَحَدَا بِهِمْ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ السَّائِقُ قَالُوا عَامِرٌ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَّا أَمْتَعْتَنَا بِهِ فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ فَقَالَ الْقَوْمُ حَبِطَ عَمَلُهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَمَّا رَجَعْتُ وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ فَقَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَهَا إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ وَأَيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن سلمة‏)‏ هو ابن الأكوع‏.‏

قوله ‏(‏من هنياتك‏)‏ بضم أوله وتشديد التحتانية بعد النون، ووقع في رواية المستملي بحذف التحتانية وقد تقدم ضبطه في كتاب المغازي، وعامر هو ابن الأكوع فهو أخو سلمة وقيل عمه، قال ابن بطال‏:‏ لم يذكر في هذه الطريق صفة قتل عامر نفسه، وقد تقدم بيانه في كتاب الأدب ففيه ‏"‏ وكان سيف عامر قصيرا فتناول به يهوديا ليضربه فرجع ذبابه فأصاب ركبته ‏"‏ قلت‏:‏ ونقل بعض الشراح عن الإسماعيلي أنه قال ليس في رواية مكي شيخ البخاري أنه ارتد عليه سيفه فقتله، والباب مترجم بمن قتل نفسه، وظن أن الإسماعيلي تعقب ذلك على البخاري وليس كما ظن وإنما ساق الحديث بلفظ ‏"‏ فارتد عليه سيفه ‏"‏ ثم نبه على أن هذه اللفظة لم تقع في رواية البخاري هنا فأشار إلى أنه عدل هنا عن رواية مكي بن إبراهيم لهذه النكتة فيكون أولى لوضوحه، ويجاب بأن البخاري يعتمد هذه الطريق كثيرا فيترجم بالحكم ويكون قد أورد ما يدل عليه صريحا في مكان آخر فلا يجب أن يعيده فيورده من طريق أخرى ليس فيها دلالة أصلا أو فيها دلالة خفية كل ذلك للفرار من التكرار لغير فائدة وليبعث الناظر فيه على تتبع الطرق والاستكثار منها ليتمكن من الاستنباط ومن الجزم بأحد المحتملين مثلا، وقد عرف ذلك بالاستقراء من صنيع البخاري فلا معنى للاعتراض به عليه، وقد ذكرت ذلك مرارا، وإنما أنبه على ذلك إذا بعد العهد به، وقد تقدم في الدعوات من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد شيخ مكي بلفظ فيه ‏"‏ فلما تصاف القوم أصيب عامر بقائمة سيفه فمات ‏"‏ وقد اعترض عليه الكرماني فقال‏:‏ قوله في الترجمة ‏"‏ فلا دية له ‏"‏ لا وجه له هنا، وإنما موضعه اللائق به الترجمة السابقة إذا مات في الزحام فلا دية له على المزاحمين لظهور أن قاتل نفسه لا دية له، قال‏:‏ ولعله من تصرف النقلة بالتقديم والتأخير عن نسخة الأصل‏.‏

ثم قال‏:‏ وقال الظاهرية دية من قتل نفسه على عاقلته، فلعل البخاري أراد رد هذا القول‏.‏

قلت‏:‏ نعم أراد البخاري رد هذا القول لكن على قائله قبل الظاهرية وهو الأوزاعي كما قدمته، وما أظن مذهب الظاهرية اشتهر عند تصنيف البخاري كتابه فإنه صنف كتابه في حدود العشرين ومائتين وكان داود بن علي الأصبهاني رأسهم في ذلك الوقت طالبا وكان سنه يومئذ دون العشرين وأما قول الكرماني بأن قول البخاري ‏"‏ فلا دية له ‏"‏ يليق بترجمة من مات في الزحام فهو صحيح لكنه في ترجمة من قتل نفسه أليق لأن الخلاف فيمن مات في الزحام قوي فمن ثم لم يجزم في الترجمة بنفي الدية، بخلاف من قتل نفسه فإن الخلاف فيه ضعيف فجزم فيه بالنفي، وهو من محاسن تصرف البخاري، فظهر أن النقلة لم يخالفوا تصرفه وبالله التوفيق‏.‏

قوله ‏(‏وأي قتل يزيده عليه‏)‏ في رواية المستملي وكذا في رواية النسفي ‏"‏ وأي قتيل ‏"‏ وصوبها ابن بطال وكذا عياض، وليست الرواية الأخرى خطأ محضا بل يمكن ردها إلى معنى الأخرى والله أعلم‏.‏

*3*باب إِذَا عَضَّ رَجُلًا فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا عض يد رجل فوقعت ثناياه‏)‏ أي هل يلزمه فيه شيء أو لا‏؟‏ ذكر فيه حديثين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ لَا دِيَةَ لَكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن زرارة‏)‏ بضم الزاي المعجمة ثم مهملتين الأولى خفيفة بينهما ألف بغير همز وهو العامري، ووقع عند الإسماعيلي في رواية علي بن الجعد عن شعبة ‏"‏ أخبرني قتادة أنه سمع زرارة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أن رجلا عض يد رجل‏)‏ في رواية محمد بن جعفر عن شعبة عند مسلم بهذا السند عن عمران قال ‏"‏ قاتل يعلى بن أمية رجلا فعض أحدهما صاحبه ‏"‏ الحديث قال شعبة وعن قتادة عن عطاء هو ابن أبي رباح عن أبي يعلى يعني صفوان عن يعلى بن أمية قال مثله، وكذا أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة بهذا السند فقال في روايته بمثل الذي قبله يعني حديث عمران بن حصين‏.‏

قلت‏:‏ ولشعبة فيه سند آخر إلى يعلى أخرجه النسائي من طريق ابن أبي عدي وعبيد بن عقيل كلاهما عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن يعلى، ووقع في رواية عبيد بن عقيل ‏"‏ أن رجلا من بني تميم قاتل رجلا فعض يده ‏"‏ ويستفاد من هذه الرواية تعيين أحد الرجلين المبهمين وأنه يعلى بن أمية، وقد روى يعلى هذه القصة وهي الحديث الثاني في الباب فبين في بعض طرقه أن أحدهما كان أجيرا له، ولفظه في الجهاد ‏"‏ غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فاستأجرت أجيرا فقاتل رجلا فعض أحدهما الآخر فعرف أن الرجلين المبهمين يعلى وأجيره وأن يعلى أبهم نفسه لكن عينه عمران بن حصين، ولم أقف على تسمية أجيره‏.‏

وأما تمييز العاض من المعضوض فوقع بيانه في غزوة تبوك من المغازي من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج في حديث يعلى قال عطاء‏:‏ فلقد أخبرني صفوان بن يعلى أيهما عض الآخر فنسيته فظن أنه مستمر على الإبهام، ولكن وقع عند مسلم والنسائي من طريق بديل بن ميسرة عن عطاء بلفظ ‏"‏ إن أجيرا ليعلى عض رجل ذراعه ‏"‏ وأخرجه النسائي أيضا عن إسحاق بن إبراهيم عن سفيان بلفظ ‏"‏ فقاتل أجيري رجلا فعضه الآخر ‏"‏ ويؤيده ما أخرجه النسائي من طريق سفيان بن عبد الله عن عميه سلمة بن أمية ويعلى بن أمية قالا ‏"‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ومعنا صاحب لنا فقاتلا رجلا من المسلمين فعض الرجل ذراعه ‏"‏ ويؤيده أيضا رواية عبيد بن عقيل التي ذكرتها من عند النسائي بلفظ ‏"‏ أن رجلا من بني تميم عض ‏"‏ فإن يعلى تميمي وأما أجيره فإنه لم يقع التصريح بأنه تميمي‏.‏

وأخرج النسائي أيضا من رواية محمد بن مسلم الزهري عن صفوان بن يعلى عن أبيه نحو رواية سلمة ولفظه ‏"‏ فقاتل رجلا فعض الرجل ذراعه فأوجعه ‏"‏ وعرف بهذا أن العاض هو يعلى بن أمية، ولعل هذا هو السر في إبهامه نفسه‏.‏

وقد أنكر القرطبي أن يكون يعلى هو العاض فقال‏:‏ يظهر من هذه الرواية أن يعلى هو الذي قاتل الأجير، وفي الرواية الأخرى ‏"‏ أن أجيرا ليعلى عض يد رجل ‏"‏ وهذا هو الأولى والأليق إذ لا يليق ذلك الفعل بيعلى مع جلالته وفضله‏.‏

قلت‏:‏ لم يقع في شيء من الطرق أن الأجير هو العاض وإنما التبس عليه أن في بعض طرقه عند مسلم كما بينته ‏"‏ أن أجيرا ليعلى عض رجل ذراعه ‏"‏ فجوز أن يكون العاض غير يعلى، وأما استبعاده أن يقع ذلك من يعلى مع جلالته فلا معنى له مع ثبوت التصريح به في الخبر الصحيح، فيحتمل أن يكون ذلك صدر منه في أوائل إسلامه فلا استبعاد‏.‏

وقال النووي‏:‏ وأما قوله يعني في الرواية الأولى ‏"‏ أن يعلى هو المعضوض ‏"‏ وفي‏.‏

الرواية الثانية والثالثة المعضوض هو أجير يعلى لا يعلى فقال الحفاظ الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى لا يعلى‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل أنهما قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأنه ليس في رواية مسلم ولا رواية غيره في الكتب الستة ولا غيرها أن يعلى هو المعضوض لا صريحا ولا إشارة‏.‏

وقال شيخنا‏:‏ فيتعين على هذا أن يعلى هو العاض والله أعلم‏.‏

قلت وإنما تردد عياض وغيره في العاض هل هو يعلى أو آخر أجنبي كما قدمته من كلام القرطبي والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فنزع يده من فيه‏)‏ وكذا في حديث يعلى الماضي في الجهاد في رواية الكشميهني ‏"‏ من فمه ‏"‏ وفي رواية هشام عن عروة عند مسلم ‏"‏ عض ذراع رجل فجذبه ‏"‏ وفي حديث يعلى الماضي في الإجارة ‏"‏ فعض إصبع صاحبه فانتزع إصبعه ‏"‏ وفي الجمع بين الذراع والأصبع عسر، ويبعد الحمل على تعدد القصة لاتحاد المخرج لأن مدارها على عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه، فوقع في رواية إسماعيل بن علية عن ابن جريج عنه ‏"‏ إصبعه ‏"‏ وهذه في البخاري ولم يسق مسلم لفظها‏.‏

وفي رواية بن ميسرة عن عطاء عند مسلم وكذا في رواية الزهري عن صفوان عند النسائي ‏"‏ ذراعه ‏"‏ ووافقه سفيان بن عيينة من ابن جريج في رواية إسحاق بن راهويه عنه، فالذي يترجح الذراع، وقد وقع أيضا في حديث سلمة بن أمية عند النسائي مثل ذلك، وانفراد ابن علية عن ابن جريج بلفظ الأصبع لا يقاوم هذه الروايات المتعاضدة على الذراع والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فوقعت ثنيتاه‏)‏ كذا للأكثر بالتثنية وللكشميهني ‏"‏ ثناياه ‏"‏ بصيغة الجمع‏.‏

وفي رواية هشام المذكورة ‏"‏ فسقطت ثنيته ‏"‏ بالإفراد وكذا له في رواية ابن سيرين عن عمران، وكذا في رواية سلمة بن أمية بلفظ ‏"‏ فجذب صاحبه يده فطرح ثنيته ‏"‏ وقد تترجح رواية التثنية لأنه يمكن حمل الرواية التي بصيغة الجمع عليها على رأي من يجيز في الاثنين صيغة الجمع ورد الرواية التي بالإفراد إليها على إرادة الجنس، لكن وقع في رواية محمد بن بكر ‏"‏ فانتزع إحدى ثنيتيه ‏"‏ فهذه أصرح في الوحدة، وقول من يقول في هذا بالحمل على التعدد بعيد أيضا لاتحاد المخرج، ووقع في رواية الإسماعيلي ‏"‏ فندرت ثنيته‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا في هذا الموضوع والمراد يعلى وأجيره ومن انضم إليهما ممن يلوذ بهما أو بأحدهما‏.‏

وفي رواية هشام فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية ابن سيرين ‏"‏ فاستعدى عليه ‏"‏ وفي حديث يعلى ‏"‏ فانطلق ‏"‏ هذه رواية ابن علية وفي رواية سفيان ‏"‏ فأتى ‏"‏ وفي رواية محمد بن بكر عن ابن جريج في‏.‏

المغازي ‏"‏ فأتيا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال يعض‏)‏ بفتح أوله والعين المهملة بعدها ضاد معجمة ثقيلة وفي رواية مسلم ‏"‏ يعمد أحدكم إلى أخيه فيعضه ‏"‏ وأصل عض عضض بكسر الأولى يعضض بفتحها فأدغمت‏.‏

قوله ‏(‏كما يعض الفحل‏)‏ وفي حدث سلمة ‏"‏ كعضاض الفحل ‏"‏ أي الذكر من الإبل ويطلق على غيره من ذكور الدواب ووقع في الرواية التي في الجهاد وكذا في حديث هشام ‏"‏ ويقضمها ‏"‏ بسكون القاف وفتح الضاد المعجمة على الأفصح ‏"‏ كما يقضم الفحل ‏"‏ من القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان والخضم بالخاء المعجمة بدل القاف الأكل بأقصاها وبأدنى الأضراس ويطلق على الدق والكسر ولا يكون إلا في الشيء الصلب حكاه صاحب الراعي في اللغة‏.‏

قوله ‏(‏لا دية له‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لا دية لك ‏"‏ ووقع في رواية هشام ‏"‏ فأبطله وقال أردت أن تأكل لحمه ‏"‏ وفي حديث سلمة ‏"‏ ثم تأتي تلتمس العقل لا عقل لها فأبطلها ‏"‏ وفي رواية ابن سيرين ‏"‏ فقال ما تأمرني‏؟‏ أتأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل ادفع يدك حتى يقضمها ثم انزعها ‏"‏ كذا لمسلم وعند أبي نعيم في المستخرج من الوجه الذي أخرجه مسلم ‏"‏ إن شئت أمرناه فعض يدك ثم انتزعها أنت ‏"‏ وفي حديث يعلى بن أمية ‏"‏ فأهدرها ‏"‏ وفي هذا الباب ‏"‏ فأبطلها ‏"‏ وهي رواية الإسماعيلي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجْتُ فِي غَزْوَةٍ فَعَضَّ رَجُلٌ فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَأَبْطَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج‏)‏ كذا وقع هنا بعلو درجة، وتقدم له في الإجارة والجهاد والمغازي من طريق ابن جريج بنزول لكن سياقه فيها أتم مما هنا‏.‏

قوله ‏(‏عن عطاء‏)‏ هو ابن أبي رباح ‏(‏عن صفوان بن يعلى‏)‏ وفي رواية ابن علية في الإجارة ‏"‏ أخبرني عطاء ‏"‏ وفي رواية محمد بن أبي بكر في المغازي ‏"‏ سمعت عطاء أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية ‏"‏ وكذا المسلم من طريق أبي أسامة عن ابن جريج‏.‏

قوله ‏(‏عن أبيه‏)‏ في رواية ابن علية ‏"‏ عن يعلى بن أمية ‏"‏ وفي رواية حجاج بن محمد عند أبي نعيم في المستخرج ‏"‏ أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية أنه سمع يعلى ‏"‏ وأخرجه مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن عطاء عن ابن يعلى عن أبيه، ومن طريق همام عن عطاء كذلك وهي عند البخاري في الحج مختصرة مضمومة إلى حديث الذي سأل عن العمرة، ومن طريق هشام الدستوائي عن قتادة وفيها مخالفة لرواية شعبة من وجهين أحدهما أنه أدخل بين قتادة وعطاء بديل بن ميسرة والآخر أنه أرسله، ولفظه عن صفوان بن يعلى ‏"‏ أن أجيرا ليعلى بن أمية عض رجل ذراعه ‏"‏ وقد اعترض الدار قطني على مسلم في تخريجه هذه الطريق وتخريجه طريق محمد بن سيرين عن عمران وهو لم يسمع منه، وأجاب النووي بما حاصله‏:‏ أن المتابعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في الأصول، وهو كما قال، ومنية التي نسب إليها يعلى هنا هي أمه وقيل جدته والأول المعتمد، وأبوه كما تقدم في الروايات أمية بن أبي عبيد بن همام بن الحارث التميمي الحنظلي، أسلم يوم الفتح وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ما بعدها كحنين والطائف وتبوك ومنية أمه بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية هي بنت جابر عمة عتبة بن غزوان وقيل أخته، وذكر عياض أن بعض رواة مسلم صحفها وقال منبه بفتح النون وتشديد الموحدة وهو تصحيف، وأغرب ابن وضاح فقال منبه بسكون النون أمه وبفتحها ثم موحدة أبوه ولم يوافقه أحد على ذلك‏.‏

قوله ‏(‏خرجت في غزوة‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ في غزاة ‏"‏ وثبت في رواية سفيان أنها غزوة تبوك، ومثله في رواية ابن علية بلفظ ‏"‏ جيش العسرة ‏"‏ وبه جزم غير واحد من الشراح، وتعقبه بعض من لقيناه بأن في ‏"‏ باب من أحرم جاهلا وعليه قميص ‏"‏ من كتاب الحج في البخاري من حديث يعلى ‏"‏ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل عليه جبة بها أثر صفرة ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فقال اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك‏.‏

وعفى رجل يد رجل فانتزع ثنيته فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فهذا يقتضي أن يكون ذلك في سفر كان فيه الإحرام بالعمرة‏.‏

قلت‏:‏ وليس ذلك صريحا في هذا الحديث، بل هو محمول على أن الراوي سمع الحديثين فأوردهما معا عاطفا لأحدهما على الآخر بالواو التي لا تقتضي الترتيب، وعجيب ممن يتكلم عن الحديث فيرد ما فيه صريحا بالأمر المحتمل، وما سبب ذلك إلا إيثار الراحة بترك تتبع طرق الحديث فإنها طريق توصل إلى الوقوف على المراد غالبا‏.‏

قوله ‏(‏فعض رجل فانتزع ثنيته‏)‏ كذا وقع عنده هنا بهذا الاختصار المجحف، وقد بينه الإسماعيلي من طريق يحيى القطان عن ابن جريج ولفظه ‏"‏ قاتل رجل آخر فعض يده فانتزع يده فانتدرت ثنيته ‏"‏ وقد بينت اختلاف طرقه في الذي قبله، وقد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور فقالوا لا يلزم المعضوض قصاص ولا دية لأنه في حكم الصائل، واحتجوا أيضا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحا ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه، فكذا لا يضمن سنه بدفعه إياه عنها، قالوا ولو جرحه المعضوض في موضع آخر لم يلزمه شيء، وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب في شدقيه أو فك لحيته ليرسلها، ومهما أمكن التخليص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر وعند الشافعية وجه أنه يهدر على الإطلاق، ووجه أنه لو دفعه في ذلك ضمن، وعن مالك روايتان أشهرهما يجب الضمان، وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أن يكون سبب الإنذار شدة العض لا النزع فيكون سقوط ثنية العاض بفعله لا بفعل المعضوض، إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه أن يخلص يده من غير قلع، ولا يجوز الدفع بالأثقل مع إمكان الأخف‏.‏

وقال بعض المالكية‏:‏ العاض قصد العضو نفسه والذي استحق في إتلاف ذلك العضو غير ما فعل به فوجب أن يكون كل منهما ضامنا ما جناه على الآخر، كمن قلع عين رجل فقطع الآخر يده‏.‏

وتعقب بأنه قياس في مقابل النص فهو فاسد‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لعل أسنانه كانت تتحرك فسقطت عقب النزع، وسياق هذا الحديث يدفع هذا الاحتمال، وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين ولا عموم لها، وتعقب بأن البخاري أخرج في الإجارة عقب حديث يعلى هذا من طريق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبي صلى الله عليه وسلم وقضى فيه بمثله، وما تقدم من التقييد ليس في الحديث وإنما أخذ من القواعد الكلية، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم به فإن النص إنما ورد في صورة مخصوصة، نبه على ذلك ابن دقيق العيد‏.‏

وقد قال يحيى بن عمر‏:‏ لو بلغ مالكا هذا الحديث لما خالفه، وكذا قال ابن بطال‏:‏ لم يقع هذا الحديث لمالك وإلا لما خالفه‏.‏

وقال الداودي‏:‏ لم يروه مالك لأنه من رواية أهل العراق‏.‏

وقال أبو عبد الملك كأنه لم يصح الحديث عنده لأنه أتى من قبل المشرق‏.‏

قلت‏:‏ وهو مسلم في حديث عمران، وأما طريق يعلى ابن أمية فرواها أهل الحجاز وحملها عنهم أهل العراق، واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان، ونقل القرطبي عن بعض أصحابهم إسقاط الضمان قال وضمنه الشافعي وهو مشهور مذهب مالك، وتعقب بأن المعروف عن الشافعي أنه لا ضمان، وكأنه انعكس على القرطبي‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يتكلم النووي على ما وقع في رواية ابن سيرين عن عمران، فإن مقتضاها إجراء القصاص في العضة، وسيأتي البحث فيه مع القصاص في اللطمة بعد بابين‏.‏

وقد يقال إن العض هنا إنما أذن فيه للتوصل إلى القصاص في قلع السن، لكن الجواب السديد في هذا أنه استفهمه استفهام إنكار لا تقرير شرع، هذا الذي يظهر لي والله أعلم‏.‏

وفي هذه القصة من الفوائد التحذير من الغضب، وأن من وقع له ينبغي له أن يكظمه ما استطاع لأنه أدى إلى سقوط ثنية الغضبان، لأن يعلى غضب من أجيره فضربه فدفع الأجير عن نفسه فعضه يعلى فنزع يده فسقطت ثنية العاض، ولولا الاسترسال مع الغضب لسلم من ذلك‏.‏

وفيه استئجار الحر للخدمة وكفاية مؤنة العمل في الغزو لا ليقاتل عنه كما تقدم تقريره في الجهاد‏.‏

وفيه رفع الجناية إلى الحاكم من أجل الفصل، وأن المرء لا يقتص لنفسه، وأن المتعدي بالجناية يسقط ما ثبت له قبلها من جناية إذا ترتبت الثانية على الأولى‏.‏

وفيه جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل، وقد حكى الكرماني أنه رأى من صحف قوله ‏"‏ كما يقضم الفجل ‏"‏ بالجيم بدل الحاء المهملة وحمله على البقل المعروف، وهو تصحيف قبيح‏.‏

وفيه دفع الصائل وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه إلا بجناية على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدرا، وللعلماء في ذلك اختلاف وتفصيل معروف‏.‏

وفيه أن من وقع له أمر يأنفه أو يحتشم من نسبته إليه إذا حكاه كنى عن نفسه بأن يقول فعل رجل أو إنسان أو نحو ذلك كذا وكذا كما وقع ليعلى في هذه القصة، وكما وقع لعائشة حيث قالت‏:‏ ‏"‏ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، فقال لها عروة‏:‏ هل هي إلا أنت‏؟‏ فتبسمت‏"‏‏.‏

*3*باب السِّنَّ بِالسِّنِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب السن بالسن‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ أجمعوا على قلع السن بالسن في العمد، واختلفوا في سائر عظام الجسد فقال مالك فيها القود إلا ما كان مجوفا أو كان كالمأمومة والمنقلة والهاشمة ففيها الدية واحتج بالآية، ووجه الدلالة منها أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد على لسان نبينا بغير إنكار، وقد دل قوله ‏"‏ السن بالسن ‏"‏ على إجراء القصاص في العظم لأن السن عظم إلا ما أجمعوا على أن لا قصاص فيه إما لخوف ذهاب النفس وإما لعدم الاقتدار على المماثلة فيه‏.‏

وقال الشافعي والليث والحنفية‏:‏ لا قصاص في العظم غير السن لأن دون العظم حائلا من جلد ولحم وعصب يتعذر معه المماثلة، فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص، ولكنه لا يصل إلى العظم حتى ينال ما دونه مما لا يعرف قدره‏.‏

وقال الطحاوي اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس فليلتحق بها سائر العظام، وتعقب بأنه قياس مع وجود النص فإن في حديث الباب أنها كسرت الثنية فأمرت بالقصاص مع أن الكسر لا تطرد فيه المماثلة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا الأنصاري‏)‏ هو محمد بن عبد الله وسماه البخاري في روايته عنه هذا الحديث في تفسير سورة البقرة‏.‏

قوله ‏(‏عن حميد عن أنس‏)‏ في رواية التفسير ‏"‏ حدثنا حميد أن أنسا حدثه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أن ابنة النضر‏)‏ تقدم في التفسير بهذا السند عن أنس أن الربيع بضم أوله والتشديد عمته، وفي تفسير المائدة من رواية الفزاري عن حميد عن أنس ‏"‏ كسرت الربيع عمة أنس ‏"‏ ولأبي داود من طريق معتمر عن حميد عن أنس ‏"‏ كسرت الربيع أخت أنس بن النضر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لطمت جارية فكسرت ثنيتها‏)‏ وفي رواية الفزاري ‏"‏ جارية من الأنصار ‏"‏ وفي رواية معتمر ‏"‏ امرأة ‏"‏ بدل جارية، وهو يوضح أن المراد بالجارية المرأة الشابة لا الأمة الرقيقة‏.‏

قوله ‏(‏فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ زاد في الصلح ومثله لابن ماجه والنسائي من وجه آخر عن أنس ‏"‏ فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا عليهم الأرش فأبوا ‏"‏ أي طالب أهل الربيع إلى أهل التي كسرت ثنيتها أن يعفوا عن الكسر المذكور مجانا أو على مال فامتنعوا، زاد في الصلح ‏"‏ فأبوا إلا القصاص ‏"‏ وفي رواية الفزاري ‏"‏ فطلب القوم القصاص فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأمر بالقصاص‏)‏ زاد في الصلح ‏"‏ فقال أنس بن النضر ‏"‏ إلى آخر ما حكيته قريبا في ‏"‏ باب القصاص بين الرجال والنساء ‏"‏ وقوله فيه ‏"‏ فرضي القوم وعفوا ‏"‏ وقع في رواية الفزاري ‏"‏ فرضي القوم فقبلوا الأرش ‏"‏ وفي رواية معتمر ‏"‏ فرضوا بأرش أخذوه ‏"‏ وفي رواية مروان بن معاوية عن حميد عند الإسماعيلي ‏"‏ فرضي أهل المرأة بأرش أخذوه فعفوا ‏"‏ فعرف أن قوله ‏"‏ فعفوا ‏"‏ أي على الدية، زاد معتمر ‏"‏ فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ‏"‏ أي لأبر قسمه‏.‏

ووقع في رواية خالد الطحان عن حميد عن أنس في هذا الحديث عند ابن أبي عاصم ‏"‏ كم من رجل لو أقسم على الله لأبره ‏"‏ ووجه تعجبه أن أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل فكان قضية ذلك في العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو فبر قسم أنس، وأشار بقوله ‏"‏ إن من عباد الله ‏"‏ إلى أن هذا الاتفاق إنما وقع إكراما من الله لأنس ليبر يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم ويعطيهم أربهم‏.‏

واختلف في ضبط قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏كتاب الله القصاص ‏"‏ فالمشهور أنهما مرفوعان على أنهما مبتدأ وخبر، وقيل منصوبان على أنه مما وضع فيه المصدر موضع الفعل أي كتب الله القصاص، أو على الإغراء والقصاص بدل منه فينصب، أو ينصب بفعل محذوف، ويجوز رفعه بأن يكون خبر مبتدأ محذوف‏.‏

واختلف أيضا في المعنى فقيل‏:‏ المراد حكم كتاب الله القصاص فهو على تقدير حذف مضاف، وقيل المراد بالكتاب الحكم أي حكم الله القصاص، وقيل أشار إلى قوله ‏(‏والجروح قصاص، فعاقبوا‏)‏ وقيل إلى قوله ‏(‏فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏)‏ وقيل إلى قوله ‏(‏والسن بالسن‏)‏ في قوله ‏(‏وكتبنا عليهم فيها‏)‏ بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يرفعه‏.‏

وقد استشكل إنكار أنس بن النضر كسر سن الربيع مع سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالقصاص ثم قال ‏"‏ أتكسر سن الربيع ‏"‏‏؟‏ ثم أقسم أنها لا تكسر، وأجيب بأنه أشار بذلك إلى التأكيد على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الشفاعة إليهم أن يعفوا عنهما، وقيل كان حلفه قبل أن يعلم أن القصاص حتم فظن أنه على التخيير بينه وبين الدية أو العفو، وقيل لم يرد الإنكار المحض والرد بل قاله توقعا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش، وبهذا جزم الطيبي فقال‏:‏ لم يقله ردا للحكم بل نفى وقوعه لما كان له عند الله من اللطف به في أموره والثقة بفضله أن لا يخيبه فيما حلف به ولا يخيب ظنه فيما أراده بأن يلهمهم العفو، وقد وقع الأمر على ما أراد‏.‏

وفيه جواز الحلف فيما يظن وقوعه والثناء على من وقع له ذلك عند أمن الفتنة بذلك عليه، واستحباب العفو عن القصاص، والشفاعة في العفو، وأن الخيرة في القصاص أو الدية للمستحق على المستحق عليه، وإثبات القصاص بين النساء في الجراحات وفي الأسنان‏.‏

وفيه الصلح على الدية، وجريان القصاص في كسر السن، ومحله فيما إذا أمكن التماثل بأن لكون المكسور مضبوطا فيبرد من سن الجاني ما يقابله بالمبرد مثلا، قال أبو داود في السنن‏:‏ قلت للأحمد كيف‏؟‏ فقال‏:‏ يبرد‏.‏

ومنهم من حمل الكسر في هذا الحديث على القلع وهو بعيد من هذا السياق‏.‏

*3*باب دِيَةِ الْأَصَابِعِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب دية الأصابع‏)‏ أي هل مستوية أو مختلفة‏؟‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام‏)‏ في رواية النسائي من طريق يزيد بن زريع عن شعبة ‏"‏ الإبهام والخنصر ‏"‏ وحذف لفظة ‏"‏ يعني ‏"‏ وزاد في رواية عنه ‏"‏ عشر عشر ‏"‏ ولعلي بن الجعد عن شعبة عن الإسماعيلي ‏"‏ وأشار إلى الخنصر والإبهام ‏"‏ وللإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة ‏"‏ ديتهما سواء ‏"‏ ولأبي داود من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة ‏"‏ الأصابع والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء ‏"‏ ولأبي داود والترمذي من طريق يزيد النحوي عن عكرمة بلفظ ‏"‏ الأسنان الأصابع سواء ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ أصابع اليدين والرجلين سواء ‏"‏ وأخرج ابن أبي عاصم من رواية يحيى القطان عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال بعثه مروان إلى ابن عباس يسأله عن الأصابع فقال ‏"‏ قضى النبي صلى الله عليه وسلم في اليد خمسين وكل أصبع عشر ‏"‏ وكذا في كتاب عمرو بن حزم عند مالك ‏"‏ في الأصابع عشر عشر ‏"‏ وسأذكر سنده، ولابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه ‏"‏ الأصابع سواء كلهن فيه عشر عشر من الإبل، وفرقه أبو داود حديثين وسنده جيد‏.‏

قوله ‏(‏سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نحوه‏)‏ نزل المصنف في هذا السند درجة من أجل وقوع التصريح فيه بالسماع‏.‏

وأما قوله ‏"‏ نحوه ‏"‏ فقد أخرجه ابن ماجه والإسماعيلي من رواية ابن أبي عدي المذكورة بلفظ ‏"‏ الأصابع سواء ‏"‏ وأخرجاه من رواية ابن أبي عدي أيضا لكن مقرونا به غندر والقطان بلفظ الرواية الأولى ولكن بتقديم الإبهام على الخنصر، قال الترمذي‏:‏ العمل على هذا عند أهل العلم، وبه يقول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏

قلت‏:‏ وبه قال جميع فقهاء الأمصار، وكان فيه خلاف قديم فأخرج ابن أبي شيبة من رواية سعيد بن المسيب عن عمر ‏"‏ في الإبهام خمسة عشر وفي السبابة والوسطى عشر عشر وفي البنصر تسع وفي الخنصر ست ‏"‏ ومثله عن مجاهد، وفي ‏"‏ جامع الثوري ‏"‏ عن عمر نحوه وزاد ‏"‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ حتى وجد عمر في كتاب الديات لعمرو بن حزم في كل إصبع عشر فرجع إليه‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وكتاب عمرو بن حزم أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه ‏"‏ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول أن في العشر مائة من الإبل ‏"‏ وفيه ‏"‏ وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل ‏"‏ ووصله أبو داود في ‏"‏ المراسيل ‏"‏ والنسائي من وجه آخر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مطولا، وصححه ابن حبان، وأعله أبو داود والنسائي‏.‏

وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه ‏"‏ في الإبهام والتي تليها نصف دية اليد، وفي كل واحدة عشر ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد نحو أثر عمر إلا أنه قال ‏"‏ في البنصر ثمان وفي الخنصر سبع ‏"‏ ومن طريق الشعبي ‏"‏ كنت عند شريح فجاءه رجل فسأله فقال‏:‏ في كل إصبع عشر، فقال‏:‏ سبحان الله هذه وهذه سواء الإبهام والخنصر، قال‏:‏ ويحك أن السنة منعت القياس اتبع ولا تبتدع ‏"‏ وأخرجه ابن المنذر وسنده صحيح‏.‏

وأخرج مالك في الموطأ ‏"‏ أن مروان بعث أبا غطفان المزني إلى ابن عباس‏:‏ ماذا في الضرس‏؟‏ فقال‏:‏ خمس من الإبل، قال‏:‏ فردني إليه‏:‏ أتجعل مقدم الفم مثل الأضراس‏؟‏ فقال‏:‏ لو لم تعتبر ذلك إلا في الأصابع عقلها سواء‏)‏ وهذا يقتضي أن لا خلاف عند ابن عباس ومروان في الأصابع وإلا لكان في القياس المذكور نظر‏.‏

قال الخطابي‏:‏ هذا أصل في كل جناية لا تضبط كميتها، فإذا فاق ضبطها من جهة المعنى اعتبرت من حيث الاسم فتتساوى ديتها وإن اختلف حالها ومنفعتها ومبلغ فعلها، فإن للإبهام من قوة ما ليس للخنصر ومع ذلك فديتهما سواء، ومثله في الجنين غرة سواء كان ذكرا أو أنثى، وهكذا القول في الواضح ديتها سواء ولو اختلف في المساحة، وكذلك الأسنان نفع بعضها أقوى من بعض وديتها سواء نظرا للاسم فقط‏.‏

وما أخرجه مالك في الموطأ عن ربيعة ‏"‏ سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة‏؟‏ قال‏:‏ عشر، قلت‏:‏ ففي إصبعين‏؟‏ قال‏:‏ عشرون، قلت‏:‏ ففي ثلاث‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثون، قلت‏:‏ ففي أربع‏؟‏ قال‏:‏ عشرون‏.‏

قلت‏:‏ حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها‏.‏

قال‏:‏ يا ابن أخي هي السنة، فإنما قال ذلك لأن دية المرأة نصف دية الرجل لكنها عنده تساويه فيما كان قدر ثلث الدية فما دونه فإذا زاد على ذلك رجعت إلى حكم النصف‏.‏

*3*باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ مِنْ رَجُلٍ هَلْ يُعَاقِبُ أَوْ يَقْتَصُّ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ

وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ عَلِيٌّ ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ وَقَالَا أَخْطَأْنَا فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا وَأُخِذَا بِدِيَةِ الْأَوَّلِ وَقَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا وَقَالَ لِي ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ غُلَامًا قُتِلَ غِيلَةً فَقَالَ عُمَرُ لَوْ اشْتَرَكَ فِيهَا أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَهُ وَأَقَادَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيٌّ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ مِنْ لَطْمَةٍ وَأَقَادَ عُمَرُ مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ وَأَقَادَ عَلِيٌّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب‏؟‏‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية ‏"‏ يعاقبون ‏"‏ بصيغة الجمع، وفي أخرى بحذف النون وهي لغة ضعيفة‏.‏

وقوله ‏"‏أو يقتص منهم كلهم ‏"‏ أي إذا قتل أو جرح جماعة شخصا واحدا هل يجب القصاص على الجميع أو يتعين واحدا ليقتص منه ويؤخذ من الباقين الدية، فالمراد بالمعاقبة هنا المكافأة، وكأن المصنف أشار إلى قول ابن سيرين فيمن قتله اثنان يقتل أحدهما ويؤخذ من الآخر الدية، فإن كانوا أكثر وزعت عليهم بقية الدية كما لم قتله عشرة فقتل واحد أخذ من التسعة تسع الدية، وعن الشعبي يقتل الولي من شاء منهما أو منهم إن كانوا أكثر من واحد ويعفو عمن بقي، وعن بعض السلف يسقط القود ويتعين الدية حكي عن ربيعة وأهل الظاهر‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ جاء عن معاوية وابن الزبير والزهري مثل قول ابن سيرين وحجة الجمهور أن النفس لا تتبعض فلا يكون زهوقها بفعل بعض دون بعض وكان كل منهم قاتلا، ومثله لو اشتركوا في رفع حجر على رجل فقتله كان كل واحد منهم رفع، بخلاف ما لو اشتركوا في أكل رغيف فإن الرغيف يتبعض حسا ومعنى‏.‏

قوله ‏(‏وقال مطرف عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل إلخ‏)‏ وصله الشافعي عن سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف عن الشعبي ‏"‏ أن رجلين أتيا عليا فشهدا على رجل أنه سرق فقطع يده، ثم أتياه بآخر فقالا‏:‏ هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول، فلم يجز شهادتهما على الآخر وأغرمهما دية الأول وقال‏:‏ لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ‏"‏ ولم أقف على الشاهدين ولا على اسم المشهود عليهما، وعرف بقوله ‏"‏ ولم يجز شهادتيهما على الآخر ‏"‏ المراد بقوله في رواية البخاري ‏"‏ فأبطل شهادتهما ‏"‏ ففيه تعقب على من حمل الإبطال على شهادتهما معا الأولى لإقرارهما فيها بالخطأ والثانية لكونهما صارا متهمين، ووجه التعقب أن اللفظ وإن كان محتملا لكن الرواية الأخرى عينت أحد الاحتمالين‏.‏

قوله ‏(‏وقال لي ابن بشار‏)‏ هو محمد المعروف ببندار ويحيى هو القطان وعبيد الله هو ابن عمر العمري‏.‏

قوله ‏(‏أن غلاما قتله غيلة‏)‏ بكسر الغين المعجمة أي سرا ‏(‏فقال عمر لو اشترك فيها‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فيه ‏"‏ وهو أوجه، والتأنيث على إرادة النفس، وهذا الأثر موصول إلى عمر بأصح إسناد، وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن يحيى القطان من وجه آخر عن نافع ولفظه ‏"‏ أن عمر قتل سبعة من أهل صنعاء برجل إلخ ‏"‏ وأخرجه الموطأ بسند آخر قال ‏"‏ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة وقال‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا ‏"‏ ورواية نافع أوصل وأوضح، وقوله تمالأ بهمزة مفتوحة بعد اللام ومعناه توافق، والأثر مع ذلك مختصر من الذي بعده‏.‏

قول ‏(‏وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه إلخ‏)‏ هو مختصر من الأثر الذي وصله ابن وهب ومن طريقه قاسم بن أصبغ والطحاوي والبيهقي، قال ابن وهب حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاما يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له أن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى، فامتنعت منه، فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاء وجعلوه في عيبة - بفتح المهملة وسكون التحتانية ثم موحدة مفتوحة هي وعاء من أدم - فطرحوه في ركية - بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية هي البئر التي لم تطو - في ناحية القرية ليس فيها ماء فذكر القصة وفيه ‏"‏ فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون فكتب يعلى وهو يومئذ أمر بشأنهم إلى عمر فكتب إليه عمر بقتلهم جميعا وقال‏:‏ والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين ‏"‏ وأخرجه أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب الترهيب ‏"‏ من وجه آخر عن جرير بن حازم وفيه ‏"‏ فكتب يعلى بن أمية عامل عمر على اليمن إلى عمر فكتب إليه نحوه ‏"‏ وفي أثر ابن عمر هذا تعقب على ابن عبد البر في قوله لم يقل فيه أنه قتل غيلة إلا مالك ‏"‏ وروينا نحو هذه القصة من وجه آخر عند الدار قطني وفي فوائد أبي الحسن بن زنجويه بسند جيد إلى أبي المهاجر عبد الله بن عميرة من بني قيس ابن ثعلبة قال ‏"‏ كان رجل يسابق الناس كل سنة بأيام، فلما قدم وجد مع وليدته سبعة رجال يشربون فأخذوه فقتلوه ‏"‏ فذكر القصة في اعترافهم وكتاب الأمير إلى عمر وفي جوابه أن ‏"‏ أضرب أعناقهم واقتلها معهم فلو أن أهل صنعاء اشتركوا في دمه لقتلتهم ‏"‏ وهذه القصة غير الأولى وسنده جيد، فقد تكرر ذلك من عمر، ولم أقف على اسم واحد ممن ذكر فيها إلا على اسم الغلام في رواية ابن وهب، وحكيم والد المغيرة صنعاني لا أعرف حاله ولا اسم والده وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين‏.‏

قوله ‏(‏وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعلي وسويد بن مقرن من لطمة، وأقاد عمر من ضربة بالدرة، وأقاد علي من ثلاثة أسواط، واقتص شريح من سوط وخموش‏)‏ أما أثر أبي بكر وهو الصديق فوصله ابن أبي شيبة من طريق يحيى في الحصين سمعت طارق بن شهاب يقول ‏"‏ لطم أبو بكر يوما رجلا لطمة فقيل ما رأينا كاليوم قط هنعه ولطمه، فقال أبو بكر‏:‏ إن هذا أتاني ليستحملني فحملته فإذا هو يتبعهم، فحلفت أن لا أحمله ثلاث مرات، ثم قال له‏:‏ اقتص، فعفا الرجل ‏"‏ وأما أثر ابن الزبير فوصله ابن أبي شيبة ومسدد جميعا عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ‏"‏ أن ابن الزبير أقاد من لطمة ‏"‏ وأما أثر على الأول فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ناجية أبي الحسن عن أبيه ‏"‏ أن عليا أتى في رجل لطم رجلا فقال للملطوم اقتص ‏"‏ وأما أثر سويد بن مقرن فوصله ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأما أثر عمر فأخرجه في الموطأ عن عاصم بن عبيد الله عن عمر منقطعا، ووصله عبد الرزاق عن مالك عن عاصم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال ‏"‏ كنت مع عمر بطريق مكة فبال تحت شجرة، فناداه رجل فضربه بالدرة فقال‏:‏ عجلت علي، فأعطاه المخفقة وقال‏:‏ اقتص، فأبى، فقال لتفعلن، قال‏:‏ فإني أغفرها ‏"‏ وأما أثر على الثاني فأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو عن عبد الله بن معقل بكسر القاف قال ‏"‏ كنت عند علي فجاءه رجل فساره فقال‏:‏ يا قنبر اخرج فاجلد هذا، فجاء المجلود فقال‏:‏ إنه زاد علي ثلاثة أسواط فقال صدق قال‏:‏ خذ السوط فاجلده ثلاثة أسواط ثم قال‏:‏ يا قنبر إذا جلدت فلا تتعد الحدود ‏"‏ وأما أثر شريح فوصله ابن سعد وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال ‏"‏ جاء رجل إلى شريح فقال‏:‏ أقدني من جلوازك، فسأله فقال‏:‏ ازدحموا عليك فضربته سوطا‏.‏

فأقاده منه‏"‏‏.‏

ومن طريق ابن سرين قال‏:‏ اختصم إليه يعني شريحا عبد جرح حرا فقال‏:‏ إن شاء اقتص منه‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة‏.‏

ومن وجه آخر عن أبي إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة وخموش، والخموش بضم المعجمة الخدوش وزنه ومعناه، والخماشة ما ليس له أرش معلوم من الجراحة‏.‏

والجلواز بكسر الجيم وسكون اللام وآخره زاي هو الشرطي سمي بذلك لأن من شأنه حمل الجلاز بكسر الجيم وباللام الخفيفة وهو السير الذي يشد في السوط، وعادة الشرطي أن يربطه في وسطه‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ جاء عن عثمان وخالد بن الوليد نحو قول أبي بكر‏.‏

وهو قول الشعبي وطائفة من أهل الحديث‏.‏

وقال الليث وابن القاسم‏:‏ يقاد من الضرب بالسوط وغيره إلا اللطمة في العين ففيها العقوبة خشية على العين‏.‏

والمشهور عن مالك وهو قول الأكثر لا قود في اللطمة إلا إن جرحت ففيها حكومة، والسبب فيه تعذر المماثلة لافتراق لطمتي القوي والضعيف فيجب التعزير بما يليق باللاطم‏.‏

وقال ابن القيم‏:‏ بالغ بعض المتأخرين فنقل الإجماع على عدم القود في اللطمة والضربة وإنما يجب التعزير، وذهل في ذلك، فإن القول بجريان القود في ذلك ثابت عن الخلفاء الراشدين، فهو أولى بأن يكون إجماعا، وهو مقتضى إطلاق الكتاب والسنة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا لَا تَلُدُّونِي قَالَ فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ بِالدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي قَالَ قُلْنَا كَرَاهِيَةٌ لِلدَّوَاءِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ

الشرح‏:‏

ذكر المصنف حديث عائشة في اللدود، وقد مضى القول فيه في ‏"‏ باب القصاص بين الرجال والنساء ‏"‏ وأنه ليس بظاهر في القصاص، لكن قوله في آخره إلا العباس فإنه لم يشهدكم فقد تمسك به من قال إنه فعله قصاصا لا تأديبا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ هو حجة لمن قال يقاد من اللطمة والسوط، يعني ومناسبة ذكر ذلك في ترجمة القصاص من الجماعة للواحد ليست ظاهرة‏.‏

وأجاب ابن المنير بأن ذلك مستفاد من إجراء القصاص في الأمور الحقيرة ولا يعدل فيها عن القصاص إلى التأديب، فكذا ينبغي أن يجري القصاص على المشتركين في الجناية سواء قلوا أم كثروا فإن نصيب كل منهم عظيم معدود من الكبائر فكيف لا يجري فيه القصاص‏.‏

والعلم عند الله تعالى‏.‏